عودة دونالد ترامب المثيرة إلى سدّة الرئاسة الأميركية رافقها ظهور مؤشرات قوية لتصعيد ميداني كبير في لبنان. المؤشر الأول جاء من إسرائيل، مع إعلان إقالة يوآف غالانت من موقعه كوزير للدفاع وتعيين يسرائيل كاتس المتشدّد مكانه. والمؤشر الثاني جاء في خطاب الأمين العام لـ"حزب الله" بعد ساعات على إعلان فوز ترامب، ولو في مناسبة ذكرى أربعين السيد حسن نصرالله.
وشكّل فوز ترامب بالرئاسة الأميركية مفاجأة من العيار الثقيل، بعد نزاع مرير قاده طوال السنوات الأربع الماضية، وجاء حافلاً بالمطبات والأحداث القاسية. فمع خروجه المذلّ من البيت الأبيض بعد رفضه نتائج انتخابات العام 2020، واتهامه بالوقوف وراء الهجوم على مبنى "الكابيتول هيل" في حادثة تُعتبر من المحرّمات الأميركية، ومطاردته في المحكمة الجنائية واتهامه بالتهرّب الضريبي، وأخيراً وليس آخراً نجاته من محاولة اغتياله، عاد ترامب مظفراً بدعم شعبي واسع، وسط تعبئة عالية، وليكون الرئيس الأميركي الثاني بعد الرئيس كليفلاند في 1892، الذي ينجح في الحصول على ولايتين غير متتاليتين.
هو نجح في تسديد طلقاته السياسية في اتجاه الحزب الديموقراطي، ما جعل الشارع الأميركي يتجاوز مشهد اقتحام الكابيتول. فركّز على الإرتفاع المضطرد للأسعار وعلى مخاطر الهجرة، على اعتبار أنّها باتت تهدّد هوية البلاد وتؤدي إلى ارتفاع مستوى الجريمة، وكذلك على الإضطرابات والحروب الدولية، والتي تستنزف الخزينة الأميركية وتهدّد الإستقرار العالمي. ولذلك وعد بأكبر عملية ترحيل في تاريخ البلاد للمهاجرين غير الشرعيين، وتمديد التخفيضات الضريبية في مقابل رفع الرسوم الجمركية على البضائع المستوردة. كما أنّه وعد بإلغاء الحماية للشباب المتحول جنسياً، وهذا من ضمن السياسة المحافظة للحزب الجمهوري في مقابل المفاهيم الليبرالية للحزب الديموقراطي. وكان مفاجئاً هنا أنّه نجح في مقاسمة الديموقراطيين في شريحة الشباب، بعد أن درج اقتراع هذه الشريحة للديموقراطيين. وتوّج وعوده بالسعي لإقفال الحروب المفتوحة في العالم. لكن السؤال هنا، هو كيف سيجري إقفالها ووفق أي صيغة حل؟
وعلى الساحة الدولية، هنالك حربان كبيرتان تشارك فيهما الولايات المتحدة الأميركية ولو بنحو غير مباشر، وهما أوكرانيا والشرق الأوسط.
وبالنسبة للأولى، فلقد أعلن ترامب مراراً بأنّه سيعمد إلى إقفالها بالتفاهم مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. ويكفي هنا أن توقف واشنطن دعمها بالسلاح والمال لزيلينسكي لكي يضطر هذا الأخير للذهاب إلى إعلان وقف الحرب ولو بشروط لا تلائمه. لكن السؤال هنا: ماذا عن حكومات دول أوروبا الغربية، والتي باتت على عداء كامل مع موسكو؟ وأيضاً ماذا عن مستقبل حلف "الناتو" والذي تنظر إليه روسيا على أنّه موجّه ضدّها؟
وأما الحرب المفتوحة الثانية فهي في الشرق الأوسط، حيث تتقاطع المصالح وتتشابك التداخلات وتجعل المشهد عصياً على الفهم. فثمة عدد من اللاعبين ما بين إسرائيل والسعودية وإيران وتركيا، كما لا يجب التقليل من دور روسيا في سوريا.
ففي إسرائيل، لم ينتظر نتنياهو ظهور نتائج الإنتخابات الرئاسية الأميركية، لا بل استبقها بإقالة غالانت "صديق" إدارة جو بايدن، والذي كان يشاكس نتنياهو من خلال سعيه لإنجاز تسوية سياسية تؤدي لوقف الحرب واستعادة الأسرى. ولا شك في أنّ قرار نتنياهو له أيضاً علاقة بنزاعات داخلية تطاول الخدمة العسكرية للحريديم. لكن يسرائيل كاتس الذي حلّ مكانه معروف بميله المتشدّد وبتأييده لرفع مستوى الحرب في لبنان. وهو ما يعني أنّ الأسابيع القليلة المقبلة ستشهد رفع حماوة الحرب، والذي بدأت مؤشراته منذ الأمس.
وفي طهران، ظهرت ردود فعل باردة بعد صدور نتائج الإنتخابات الأميركية. ففي تعليق المتحدث باسم وزارة الخارجية، بأنّه لا يوجد فارق كبير بالنسبة لإيران بين ترامب وبايدن. أما في تعليق الحكومة فجاء أنّ إيران ليست قلقة كثيراً من فوز ترامب. وهذا الجواب يخفي في طياته الحقيقية بعض القلق. إذ لم يعد سراً أنّ طهران اتخذت قرارها بالعمل لمصلحة بقاء الديموقراطيين في البيت الأبيض. ذلك أنّ مرحلة اختبارها للولاية الأولى لترامب كانت صعبة، ليس فقط على المستوى الأمني (إغتيال قاسم سليماني) بل خصوصاً على المستوى المالي والعقوبات والتشدّد في تطبيقها، بخلاف ما حصل خلال ولاية بايدن الذي غضّ النظر عن بيع إيران لنفطها في السوق السوداء، ما جعل خزينتها في وضع جيد ومرتاح. وفي المقابل، كانت علاقة واشنطن بالسعودية أو الغريم العقائدي لإيران أكثر من ممتازة.
لذلك وضع المراقبون كلام الامين العام لـ"حزب الله" الشيخ نعيم قاسم في الأمس ضمن خانة الردّ الإيراني على وصول ترامب. صحيح أنّ المناسبة لها علاقة بأربعين السيد نصرالله، وأنّ تزامنها مع إنتهاء الإنتخابات الأميركية محضّ مصادفة، لكن مضمون كلمته حمل إشارات إيرانية لترامب. قاسم قال إن "حزب الله" لا يبني على الإنتخابات الأميركية، وإنّها بلا قيمة بالنسبة اليه. ومضيفاً أنّ التعويل هو على الميدان. واستتبع ذلك بأنّ إسرائيل ستصرخ بسبب صواريخ "حزب الله" ومسيّراته، وأنّه لا يوجد مكان في الكيان ممنوع عليه وما سيحصل سيكون أكثر. وتهديد قاسم يحمل في مضمونه تهديداً بضرب مواقع حساسة كانت ممنوعة على ما يبدو، كمثل مفاعل ديمونة. وما أن أنهى كلمته حتى طاولت الصواريخ ضواحي تل أبيب كإشارة أولى. وقد تكون إيران قد أرادت أن تقول إن لديها أوراقاً ميدانية لم تستخدمها بعد.
وبالتالي، وفي مقابل المؤشر التصعيدي الإسرائيلي والمواقف النارية للشيخ نعيم قاسم، لا يمكن سوى تعزيز الاقتناع بأنّ التوقيت والظروف والمتطلبات توحي بأسابيع ملتهبة، بهدف تعزيز الأوراق الميدانية قبل الذهاب إلى وضعها على طاولة التفاوض والمساومة، والتي ستُنتج تسوية سياسية كاملة تطاول الميدان الجنوبي والواقع الحدودي وإعادة تكوين السلطة في لبنان، وهو ما سيشكّل ما يشبه الجائزة التي سيحملها ترامب مع بدء ولايته الثانية، وعلى أساس أنّه الرئيس التاريخي الذي نجح بإنهاء حربين كبيرتين في أوروبا والشرق الأوسط حال دخوله إلى البيت الأبيض.
ربما يكون ذلك صحيحاً، لكن لا بدّ قبل ذلك من تدارك ارتفاع لهيب الحرب خلال الأسابيع المقبلة.